الخلاصة:
تطرقنا في هذا البحث إلى ثلاث أطروحات حداثية في الخطاب الفلسفي العربي المعاصر، أردنا، من خلالها، الوقوف عند إشكالية نظرية طالما شغلت اهتمام المفكرين العرب المهتمين بمسألة الحداثة العربية، منذ مطلع القرن الماضي، ألا وهي إشكالية الخصوصية والعالمية.
وهي إشكالية لا يتفرد بها الوضع العربي في صلته بالحضارة الغربية الحديثة؛ فالعودة إلى هذا ' الكل الحضاري ' أو ' الكلية الثقافية ' التي هي في مرحلة من مراحل التاريخ أسمى تمثيل لروح العالم وتقدم الإنسان فيه، هي وسيلة الشعوب الأخرى غير الأوروبية للأخذ بأسباب هذه الحضارة، ووسيلة الخروج منها في الوقت نفسه خروجا متميزا. وعلى كل حال فإن هذا الأمر قانون تاريخي يتكرر؛ فقد سبق أن مثلت حضارات أخرى، في حقب تاريخية مختلفة، روح العالم وتقدم الإنسان فيه، وأخذت عنها شعوب أخرى أسباب تقدمها وخرجت من ذلك خروجا متميزا. هكذا كان حال الحضارة اليونانية مع حضارات الشرق، وهكذا كان حال العرب المسلمين مع حضارة اليونان، وكذلك كان حال أوروبا الحديثة مع حضارة العرب والمسلمين.
لكن هذا القانون التاريخي سيأخذ في العصر الحديث، مع التجربة الحداثية الأوروبية، بعدا آخر لم تشهده البشرية من قبل. فقد أفرزت الحداثة الأوروبية أنماط حياة، هي الأكثر بعدا واختلافا عن الأنماط السابقة. ذلك أن مظهر الحداثة، كما يقول أنطوني غيدنس، غريب وفريد إذا ما نظرنا إليه من زاوية المقارنة مع ما سبقه(1) ، إلى الحد الذي يجعلنا نتبنى القراءة الإنقطاعية لتاريخ الحداثة وفكرها ومؤسساتها. ذلك أن نسَق التغييرات في الأزمنة الحديثة كان سريعا، ومؤئرا في الحياة البشرية كلها في الوقت نفسه.
فديناميكية الحداثة ليست مجرد سمة من سماتها، بل هي أهم تجلياتها أساسا. لذلك فإن ترتيب الأحداث وتأريخها ( أحداث الحداثة وتأريخها )، وتعيين الأمكنة ( أمكنة الحداثة ) ستتخذ دلالات جديدة خضوعا لمقتضيات هذه الحداثة ومنطقها، وشروطها المرتبطة في جوهرها بالفعل البشري كحدث تاريخي يحكم السيطرة على الطبيعة من جهة، ويعيد تنظيم المجتمع وحياة الإنسان عموما من جهة أخرى.
ومن ثمة فإن العقلانية، والذاتية ( تأكيد ذات الإنسان )، و الحرية، والعلمانية، والتقدم كلها مفاهيم تجسَّدَ من خلالها تغيير رؤية الإنسان الحديث لذاته وللعالم. فإذا كانت العقلانية قد هدفت إلى جعل العقل الإنساني هو الأداة المثلى للحكم على الأشياء والتحكم فيها، اعتمادا على المنطق والتجريب، فإن الذاتية استهدفت هي أيضا بناء ذات إنسانية حرة واعية ومريدة، تكون حضورا فاعلا في الكون. والحرية أكدت إرادة الإنسان الحرة بالقطع مع الروح الامتثالية للأقدار. أما العلمانية فإنها بصرف النظر عن خصوصيات علاقة السياسي بالديني داخل مختلف المجتمعات الأوروبية خضوعا لاختلاف التواريخ المحلية والمذاهب الدينية وتأثير حركة الإصلاح الديني، فقد حرصت على عقلنة الشأن السياسي، وجعلت المصلحة العامة مرجعية له، مع كل ما يشترطه ذلك من ابتكار آليات المشاركة السياسية واتخاذ القرار المنافي لكل أشكال الإستبداد. ومحصلة كل ذلك هي الإيمان بالتقدم، تقدم حياة الإنسان، والاعتقاد بقدرته على تغيير شروط وجوده. ولقد بينا، في الفصل الثاني من هذه الرسالة، أنه على الرغم من أن الوعي بالتقدم، كوعي بسيط، ليس وليد العصر الحديث، وسابق عصر التنوير والحداثة، إلا أن نظريات التقدم لم تظهر بمعناها المكتمل إلا خلال هذا العصر، وتحديدا مع تارغو، وكوندرسه، وليسينغ، وبرايس، وبريستلي؛ فمع هؤلاء تبلور الاعتقاد بتقدم الإنسان اللامحدود، القائم على الإيمان بقابلية الجنس البشري الدائمة للرّقي.
ولكن هذا الحقل المفاهيمي الحداثي لم ينشأ طفرة واحدة، بل خضع إلى تطوّر بطيء وعسير، في بعض الأحيان، فلم يخلو من المناقضة والرّدات أحيانا. كما أن هذا الحقل المفاهيمي توازى في تطوره مع تشكل مؤسسات الحداثة الأساسية كالدولة الأمة، والسوق، والمصنع الخ.
إلا أن أهم تعبير نظري عن كل هذا كان فلسفة التنوير. ولقد تشابكت عدة عناصر في تحديد سمات هذه الحركة الفكرية والثقافية الأوروبية؛ ولكنها تطورت أساسا بوصفها نقدا مزدوجا، كما يقول هشام جعيط، للمؤسستين الدينية والسياسية(2)، فقد نسفت أعماق النظام القديم بكليته وفي جذوره، ولئن كانت حركة مناهضة للمؤسسة الدينية، أولا وقبل كل شيء، فقد كانت ايضا حركة مناهضة للحكم المطلق، ومؤيدة لقوة العقل اللامتناهية. " ومن هذه الزاوية كانت تنحو منحى الكونية "(3). ومن هنا يمكن القول حقا إن فلسفة التنوير تمثل المرجع والأساس للفكر الغربي الحديث. وما دام الغرب قد انتشر في العالم، فقد غدت هي ايضا القاعدة الأيديولوجية لقسم واسع من العالم الحديث. وقد كان العالم العربي من أولى هذه الأقسام من العالم تأثرا بهذه الحركة التنويرية الحداثية الأوروبية، وبقيمها.
فمنذ مطلع القرن التاسع عشر بدأت مفاهيم الحداثة الأوروبية وقيمها تتسرّب إلى الفضاء الثقافي العربي التقليدي، وبدأ المثقف العربي يدرك بالتدريج دلالتها الإنسانية وبعدها الكوني؛ حتى صار يدعو إليها، ويناضل من أجل ترسيخها في مجتمعه؛ مؤكدا أنها لا تتعارض، مبدأيا، مع خصوصية العرب الثقافية والروحية. ولذلك فقد تبين لنا أن خطاب الحداثة العربية كان، في نشأته الأولى في القرن التاسع عشر، خطابا فكريا تنويريا بالأساس، لا يعبّر داخله عن انتماء اجتماعي طبقي ( إشكالية اجتماعية ) بقدر ما يعبّر عن إشكالية التكيف مع مفاهيم الحداثة الأوروبية الوافدة وقيمها حضارية.
أما في مرحلتنا المعاصرة، فلم تعد غاية المثقف العربي، في خطابه الحداثي، تسويغ مفاهيم الحداثة وقيمها ـ العقلانية والحرية والعلمانية والتقدم الخ ـ إذ أن هذه المفاهيم قد صارت جزءا من البنية الثقافية العربية ونظامها المفاهيمي ذاته. إنما إشكالية هذا الخطاب أصبحت تدور حول مدى صحة الزعم بكونية التجربة الحداثة الأوروبية، ومدى الزعم أيضا بخصوصيتها التاريخية. وهي الإشكالية التي تناولناها بالبحث في رسالتنا هذه، من خلال أعمال ثلاثة مفكرين عرب معاصرين، تشكل أطرو