الخلاصة:
لقد وُصفت السياسة الاقتصادية التي اتبعتها الجزائر خلال فترة السبعينات، وبداية الثمانينات كأهم سياسة تنموية رائدة في العالم الثالث، بحيث استمرت الأوصاف طيلة هذه الفترة التاريخية في اعتبار الظاهرة الصناعية محركا تاريخيا قادرا على إحداث تغيير نوعي وهيكلي للمجتمع الجزائري برمته، وذلك في ظرف تاريخي قياسي لا يتجاوز العقدين من الزمن.
لكن مع تراكم التغيرات السياسية والاقتصادية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات أصبحت الأوصاف السابقة ضربا من ضروب الخيال والأوهام الإيديولوجية، بحيث أصبح الاقتصاد الجزائري أمام مجموعة من الشكوك التنظيمية والهيكلية التي تبرهن تاريخيا وسوسيولوجيًا على أن الضمانات الإيديولوجية التي قُدمت بالأمس أصبحت الآن مواقف إيديولوجية فارغة وغير قادرة على مقاومة الزخم الكبير من التغيرات الهيكلية والسياسية التي باتت حقيقة مفروضة في التصورات والممارسات الاقتصادية الحديثة.
وفي خضم هذه التغيرات السياسية والاقتصادية الدولية، لجأت الجزائر إلى تطبيق سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية منذ بداية التسعينات، وذلك من أجل التجربة الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية المزرية التي وصلت إليها التجربة الاقتصادية، بحيث أصبحت معدلات التضخم عالية، وذلك نتيجة لانهيار النمو الاقتصادي بشكل عام، إضافة إلى تدهور كبير في معدلات التبادل التجاري نتيجة ارتفاع المديونية الخارجية، وعدم القدرة على الوفاء بخدمات هذه المديونية.
ولقد أجمعت جل الملاحظات الاقتصادية على أن الوضعية غير المتوازنة، كانت أسبابها الأولى راجعة إلى نهاية الثمانينات، وتحديدا سنة 1986 التي شهدت انهيارا كبيرا لأسعار المحروقات التي أدت - بدورها- إلى انهيار اقتصادي مباشر لقطاع المحروقات.
ومع تطور تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، وخاصة تلك المتعلقة بظهور الإجراءات القانونية الجديدة في الميدان الاقتصادي التي تنص على انسحاب الدولة من توجيه المسار الاقتصادي، واتخاذ السوق وسيلة جديدة لبناء المنظومة الاقتصادية الجديدة ، بحيث إن البدايات الأولى لهذا المسعى ظهرت بكل وضوح منذ دخول الجزائر في تطبيق برنامج التعديل الهيكلي "P.A.S " في أفريل 1994، بحيث إن هذه الاتفاقيات الدولية تتمثل كذلك في تطبيق برنامج التثبيت (stand by agreement) الذي دعمته مؤسسة صندوق النقد الدولي، ومؤسسة البنك العالمي التي تهدف في شكلها الظاهري إلى استعادة التوازن المالي الداخلي والخارجي للحد من الآثار السلبية للتضخم ودعم ميزان المدفوعات إضافة إلى استرجاع القدرة والجدارة الائتمانية للاقتصاد التي تعني كذلك - حسب هذه التقديرات- تحقيق مستوى المناسب من النمو الاقتصادي وذلك مقابل تطبيق مجموعة من الشروط والإجراءات التنظيمية الخاصة بتحقيق التوازنات الكلية، من خلال تحسين تخصيص الموارد، ورفع كفاءة استخدامها من أجل رفع نسبة الطاقة الإنتاجية على المدى المتوسط والبعيد.
لكن عندما نتمعن قليلا في فحوى هذه الإجراءات والشروط الهيكلية، نجد أنها تمس جوانب جد حساسة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بحيث أن الشروط التي يفرضها برنامج التصحيح الهيكلي تهدف أساسا إلى تحرير التجارة الخارجية، وتشجيع الإرادات العامة، إضافة إلى عدم سياسة الخوصصة، وما يعرف بتطبيق اقتصاد السوق.