الخلاصة:
لقد قرّرت منذ الوهلة الأولى أن أخوض في أحد الجوانب الحضارية للدولة الإسلامية ، و أتفادى قدر المستطاع الأحداث السياسية ؛ التي نال أغلبها نصيبها من البحث و الدراسة و التحليل ؛ فكان اِختياري لموضوع الطبّ في الحضارة العربية الإسلامية ، هذا الإختيار الذي كان بعد تردّد طويل ؛ نظراً لِكونِهِ خارجاً عن المألوف بالنّسبة للباحث في علم التاريخ ؛ إذ لم يكن لي أدنى اِطّلاع على العلوم الطبّية و الصيدلانية ، و لكن قرّرت التحدّي و الخوض في هذا المجال . لقد حاولتُ في هذا العمل ؛ أنّ أتطرّقَ إلى موضوع العلوم الطبّية في الحضارة الإسلامية ؛ و هو في حقيقة الأمر واحِدٌ من أهمّ العلوم العقلية ؛ التي أبدَع فيها علماء العرب و المسلمين في العصر العبّاسي ، و جانِبٌ من جوانِب الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى . و مهما قُلتُ حول هذا الموضوع إلّا أنّني لا أستطيع أن أُعطي لِهؤلاء حَقَّهُم ، أو أن أُلّم بِكلّ ما قدّموه لِلأمّة الإسلامية من خدماتٍ جليلةٍ ، و إنجازاتٍ علميةٍ خالِدة . إنّ الجديد في هذا الموضوع ؛ هو أنّني سأُحاول التذكير بفضل العلماء الموالي في اِزدهار الحضارة العربية الإسلامية في الفترة العبّاسية بشكلٍ عامٍ ، و التركيز على العلوم الطبّية و الصيدلانية بِشكلٍ خاصٍ ؛ مجيباً عن عدّة تساؤلاتٍ ؛ منها : من هم الموالي ؟ و فيم تجلّى تأثيرُهُم السياسي و العلمي ؟ و كيف جمعوا بين الطبّ و علومٍ أُخرى ؟ و من هُم أشهر الأطبّاء الموالي ؟ و ماهي أهمّ الإختصاصات الطبّية التي برز فيها هؤلاء ؟ و كيف تعاملوا مع مرضاهُم ؟ و ماهي أهمّ مؤلّفاتِهِم ؟ و ما مدى تأثير إسهاماتِهِم الطبّية على الغرب المسيحي ؟ . إنّ هذا العمل تمّ تقسيمه إلى أربعة فصولٍ ؛ تناولتُ في كلّ منها مايلي : في الفصل الأوّل ؛ الذي عنوانه : دور الموالي في الحضارة الإسلامية في العصر العبّاسي ، حاولتُ فيه الإختصار قدر المستطاع ، لأنّه يتناول أموراً سياسيةً ؛ و طبيعة بحثي هذا تستدعي عدم التوسّع فيها ، و التركيز على الجانب الحضاري و العلمي ؛ و بالأخصّ العلوم الطبّية ؛ فقد قمتُ بتعريفٍ موجزٍ للموالي ، ثمّ تناولتُ بِاختِصارٍ تأثيرهم على مجريات الأحداث السياسية في العصر العبّاسي . و في هذا الصدد ؛ قَسّمتُ هذا التأثير بين العنصرين الفارسي و التركي ؛ باعتبارِهِما أكثر العناصر الأعجمية تأثيراً و اِحتِكاراً للسلطة السياسية طيلة فترة الخلافة العبّاسية ؛ فاقتصرتُ على ذكر بعض الوزراء و الأسر الأعجمية التي حضِيَت بمكانة هامّة في البلاط العبّاسي ؛ كأبو سلمة الخلّال ، المورياني ، خالد بن برمك ، أسرة البرامكة ، أسرة بني سهل . ثمّ ذكرتُ بإيجازٍ بعض الحركات الدّينية المتمرّدة في بلاد العجم ؛ التي هدّدت اِستقرار الدولة ؛ كالمقنّعية ، و البابكية ، و الرّاوندية ، و بعدها أشرتُ إلى بعض الدّول الإنفصالية التي ظهرت في بلاد فارس و ما وراء النّهر ؛ كالسّامانية و الصفّارية ، و الطاّهرية . و في الأخير تناولتُ الدول التي حكمت بِاسم الخلافة العبّاسية ؛ على غِرار الدولة البويهية و السُلجوقية . بعدَ هذا ؛ تطرّقتُ إلى التأثير العلمي للموالي ، و دورهم الكبير في الإزدهار الحضاري الذي شهدته الدولة العبّاسية ؛ و في هذا الصدد ؛ أشرتُ بإيجازٍ إلى بعض العلماء الموالي الذين أبدعوا في مختلف العلوم العقلية و النّقلية ؛ كعبد الله بن المقفّع بديع الزمان الهمذاني ، بشار بن بُرد ، الفارابي ، عمر الخيّام النّسوي ، الطّوسي ، هبة الله البغدادي ، الطبري البلاذري ، إبن الفقيه ، إبن خرداذبة ، و غيرِهِم . و تحدّثتُ في الفصل الثاني عن دور الطبّ في الحضارة الإسلامية في العصر العبّاسي ؛ فاَستَهلتُه بلمحةٍ تاريخيةٍ وجيزةٍ حول الطبّ في الحضارة الإسلامية ؛ مُوضّحاً الفرق بين الطبّ الإسلامي و الجاهلي ؛ و مُستدلّاً ببعض الأحاديث النّبوية الصّريحة ؛ التي تدعوا إلى الخوض في هذا العلم ؛ و مُبيّناً المنهج الذي قام عليه الطبّ الإسلامي ، و مُقارنتِه بِغيرِه ، ثمّ تناولتُ تطوّر هذا العلم في العصر العبّاسي ؛ مُركّزاً عن مكانة الأطبّاء دخلتُ في صلب الموضوع ؛ أي : أشهر الأطبّاء الموالي في العصر العبّاسي ؛ إذْ حاولتُ أن أبحثَ عن الأطبّاء الموالي الذين عاشوا في الفترة العبّاسية ؛ غير أنّني وجدتُ أنّ أغلبهم ظهروا في العصر العبّاسي الثاني و الثالث ، فَقُمتُ بتناول أهمّ جوانب حياتِهم ؛ مُشيراً بِاختِصارٍ إلى إنجازاتِهِم و مؤلّفاتِهِم في ميدان العلوم الطبّية . و في هذا الصدد ؛ اِكتفيتُ بذِكْرِ إثنى عشر طبيباً من الموالي ؛ الذين ظهروا في بلاد المشرق الإسلامي ؛ تاركاً المجال لِغيري ؛ لِمن أراد تناول شخصيات أُخرى من الأطبّاء الموالي لمْ يَرِد ذكرُها في هذا العمل ؛ مِمّن عاشوا في الأقاليم الإسلامية الأُخرى على غرار مصر و بلاد المغرب الإسلامي و الأندلس . و هؤلاء الأطبّاء هم : إبن ربن الطبري الرّازي ، إبن سينا إبن أبي الأشعث ، الحسن بن سوار ، الحسن القُمَري أحمد بن محمد الطبري ، إبن عبّاس الأهوازي ، إبن مسكويه إبن مندويه الأصفهاني ، النّجيب السّمرقندي . و خصّصتُ الفصل الثالث للحديث عن إسهامات الأطبّاء الموالي في بعض الإختصاصات الطبّية ؛ كالجراحة طبّ العيون ، الطبّ النّفسي ، طبّ الحيوان ، الصيدلة ؛ تاركاً المجال لِغيرِي ؛ لِمن أراد أن يتوسّع في هذا الموضوع و يتناول إسهامات أُخرى لمْ يَرِد ذكرُها في هذا البحث . و عالجتُ في الفصل الرّابع أثر تلك الإسهامات في الغرب المسيحي ؛ مُحاولاً تبيين فضل هؤلاء الأطبّاء الموالي ، و أثرُ إسهاماهِهِم في الغرب المسيحي ؛ من خلال سَبْقِهِم في اِكتشاف العلل و الأمراض الجسدية و النّفسانية التي تُصيبُ البدن ، و وضعِ معارف طبّيةٍ جديدةٍ ، و اِنتِهاجِ طرقٍ و أساليب علاجٍ نادِرَةٍ ؛ أعطت دفعاً جديداً لِهذا العلم ، و أثَّرت بشكلٍ واضحٍ على الغرب المسيحي ، و لا يزال بعضُها مُتّبَعاً عند الأطبّاء في الوقت الحالي ، إضافةً إلى منهَجِهِم العلمي الرّاقي ؛ القائم على التجربة و الملاحظة و الإستِقصاء ، كما حاولْتُ التركيز على الجانب الإنساني الذي اِتّبعَه هؤلاء الأطبّاء في تعامُلِهِم من مرضاهُم ؛ لاسِيَما المصابين بالأمراض العقلية و مقارنتِه بنظرة الغرب إلى هؤلاء ؛ و مُعاملَتِهِم القاسية لهم . ثُمّ تطرّقتُ بعد ذلك إلى أشهر المؤلّفات الطبّية التي تركها الأطبّاء الموالي على غرار كتب : فردوس الحكمة ، الحاوي في الطبّ ، القانون في الطبّ ، المنصوري ، كامل الصناعة الطبّية ، و غيرِها من الكتب ؛ التي كانت بِمثابة موسوعات طبّية شاملة ، اِستفاد منها كثيراً طلبة العلوم الطبّية و الصّيدلانية في البلاد الإسلامية ، و تَأَثَّر بِها أطبّاء الغرب المسيحي ؛ الذين عكفوا على ترجمتِها و الإستِفادة من المعارف الطبّية النّادِرة التي تَحتَويها . لقد حاولتُ خِلال هذا البحث ؛ أن أستعرِضَ أهمّ إسهامات الأطبّاء الموالي في الفترة العبّاسية ؛ و كما أشرتُ إليه سابقاً ؛ فإنّي قد اِقتصرت على بعض الإختصاصات الطبّية التي أبدع فيها الموالي ؛ كالجراحة ، طبّ العيون الطبّ النّفسي ، طبّ النّساء و الولادة ، طبّ الحيوان ، الصيدلة ؛ تاركاً المجال لِغيري ؛ لِمن أراد التوسّع فيها ، أو التطرّق إلى اِختِصاصات اُخرى لمْ يَرِد ذِكرُها في هذا العمل ، و نفس الشّيء يُقال عن أشهر الأطبّاء من الموالي ؛ إذ تناولتُ في هذ البحث اِثنى عشر طبيباً من الموالي ؛ الذين عاشوا في بلاد المشرق الإسلامي ؛ تاركاً المجال لِمن أراد التطرّق إلى غيرِهِم من الأطبّاء ؛ الذين ظهروا في مناطق مختلِفةٍ من العالم الإسلامي كَمِصر ، و بلاد الشام و بلاد المغرب الإسلامي ، و الأندلس . و في خاتمة هذا البحث ؛ رصدتُ مختلف النتائج التي توصّلـتُ إليها ، و أوضحتُ أنّ ما تناوَلَه هذا البحث ما هو إلّا محاولة متواضعة لِإبراز دور الموالي في التقدّم الحضاري الذي شهِدته الدولة الإسلامية في العصر العبّاسي و أنّه مهما قيل عن هؤلاء العظماء ؛ إلّا أنّنا لا نستطيع أن نُنصِفَهُم ، أو أن نُعطي لهم حَقَّهُم ، أو أن نُلمَّ بِكلّ ما قدّموه لِلأمّة الإسلامية من خدماتٍ جليلةٍ ، و إنجازاتٍ علميةٍ خالِدة ؛ كان لها الأثر الكبير في إنجاز أعظم حضارة عرفتها العصور الوسطى .