الوصف:
تعد الانثروبولوجيا العلم الذي اهتم بد ا رسة نمط حياة الإنسان في ممارساته المختلفة، لقد
اهتمت الأنثروبولوجيا بأدق تفاصيل ذلك الإنسان في سكونه وترحاله، في حربه وسلمه، واهتمت
بجغ ا رفية وجود هذا الأخير حيثما وجد في تفاعله مع عوارض الحياة إثر الحقب التاريخية
المتتالية، أين ميزت الثقافات شعوبا مختلفة، وجعلت منها قبائل متعددة كان لها أثرها
الاجتماعي في التاريخ وفي الانثروبولوجيا، وقد سجلت الانثروبولوجيا ما لا يمكن لعلم التاريخ
إد ا رك تفاصيله أو الوصول إلى خباياه، في تفاعل الإنسان مع عوارض الحياة في محاولاته
المتكررة من أجل البقاء على قيد الحياة، ففي تعامله مثلا مع الأم ا رض والأوبئة عبر الم ا رحل
الحياتية للإنسان، استطاع علم الانثروبولوجيا الكشف عن تفاصيل ممارسة هذا الأخير للمداواة
في تتبعه لمختلف النباتات والوسائل الأخر التي و ففّها الإنسان لذلك الغرض من أجل
المحافظة على حياته، فكانت له طقوسا وعادات، ارتبطت بقو الطبيعة خاصة، وبقو أخر
بدت خارقة، كان لها تأثيرها المباشر وغير المباشر في تكريس مصاد ا ر عديدة استلهم منها
الإنسان القوة، بقيت تتطور معه عبر الزمن في سعيه و ا رء الكشف عن ما هو خفي، للاستلهام
المعرفة وتحقيق العلم.
لقد تمكنت الانثروبولوجيا من اكتشاف ود ا رسة تلك الوسائط التي اتخذها الإنسان من أجل
تحقيق علاقته مع تلك القو الخارقة والمهيمنة، ولقد كانت الممارسات المتعلقة بما يسمى
الدين والمرتبطة بالتدين إحدى تلك الممارسات التي لا ا زلت تحظى إلى يومنا بأعمق الد ا رسات
الانثروبولوجية لما لهذه الممارسات من تأثير على منحى الحياة، ولما لها أيضا من أهمية
على تشكيل المؤسسات الدينية التي كان لها الدور الكبير في التنمية الاجتماعية
والاقتصادية للمجتمعات، فكانت تُعدّ من بين أكبر المؤسسات التي عملت على
تحقيق استم ا ررية التماسك الاجتماعي بالرغم من قوة الحوادث والتغيي ا رت التي حصلت عبر
التاريخ، فنجدها عملت على تشكيل الممارسات الدينية مثلما عملت هذه الأخيرة بدورها على
تشكيل تلك المؤسسات الدينية في الوقت نفسه. ولأهمية عامل الدين وحسب قول "دوركهايم"
يمكننا أن ننظر للدين كعملية تدخل في العالم بمجمله، كونه يعمل كنمط ت ا ربط للعلاقات
الاجتماعية، ولأنه يتغلغل في كل مظاهر الحياة.
3
لقد تمكنت مؤسسة الزوايا في المغرب العربي منذ القرن الخامس الهجري وعبر تطورها
حتى القرن العشرين الارتقاء بالممارسات الدينية من طابعها الفردي إلى أن تكون تلك
المؤسسات المنخرطة في الشأن العام والحريصة على تحقيق مصلحة المجتمع، ولقد كان
لمرجعياتها الدينية الفضل الأكبر في المحافظة على ضمان استم ا ررية الوحدة والمحافظة على
الهوية وتعزيز المقدس من خلال ممارسة التصوف واحت ا رم العلماء وتبجيل الشرفاء والم ا ربطين،
والأولياء والصالحين، في ما سمح باتساع رقعة تلك المؤسسات وتنوع تصنيفاتها التي اعتمدت
على معايير مرتبطة بمرجعيات تاريخية وسوسيو أنثروبولوجية ميزت تلك المؤسسات عن
بعضها البعض برغم ما كان يجمع بينها من سلوك ديني ومما رسات مرتبطة بما هو مقدس.
إنّ الخوض المُعمّق في الد ا رسات حول الممارسات الدينية من خلال المدخل الانثروبولوجي
في أي مجتمع، سيكشف لنا عن عمق التجربة الدّينية لدى كلّ نموذج حضاري قد يُمَكِّّن
تلك التجارب إلى أن تصير وتتحول من خلال الممارسات إلى خام إنساني مشترك، قد يساهم
في تعميق الحوار الذي يجب أن يسود بين الحضا ا رت، وبالتالي يكون الفكر الذي تنطوي
خلفه تلك الممارسات الدينية هو الأرضية الذي تعتمدها الأنثروبولوجيا للحفر في مكنونات تلك
الممارسات، ووسيلتها لاكتشاف الشخصيات التاريخية المؤثرة في تكريس وتدوين لأنثروبولوجية
دينية لا ت ا زل تتشكل إلى الآن، يمكننا أن نحدّد من خلالها ذلك المسار البنائي الحضاري
المتشكل من ماضي حضاري قد نستثمر فيه ونفعّله من أجل تشكيل مي ا رثا ثقافيا وتاريخيا
يدفع بنا إلى تحقيق التنمية والاستثمار في الإنسان، وإن التفريط في ذلك الماضي بعدم
تفعيله في التعامل والتعاطي مع تبعات التحوّلات الحاصلة سيضعنا خارج ذلك المسار
الحضاري وبعيدا عن المساهمة فيه.