الخلاصة:
لاشك أن السيطرة العثمانية على ولاية طرابلس الغرب ، والتي امتدت فترة طويلة من الزمن تصل إلى قرابة ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف . وهذه مدة كافية لتترك أثارها على هذا الجزء الهام من الوطن العربي الكبير .
ففي الوقت الذي تتطلع فيه كثير من دول العالم للأخذ بأسباب الرقي والتقدم ومحاولة مواكبة التطورات العلمية التي صاحبت قيام الثورة الصناعية في أوروبا ، وأخذت تتخلص من سيطرة الكنيسة وسطوتها كانت الدولة العثمانية ترفض مواكبة ذلك التقدم والأخذ به باعتباره اقتباس عن " الكفار" أو بالاحرى أن تلك التطورات قد تحد من سيطرة المتنفذين في الدولة وأصحاب القرار كالانكشارية ورجال الدين وبالتالي جاءت فكرة رفض الاقتباس أساساً .
وعندما أدركت الدولة إنها وقعت في خطاء كبير بانتهاج سياسة العُزلة وان دول العالم من حولها أصبحت تفوقها في كثير من الأشياء ، واستبان ضعفها على اثر الهزائم التي ألحقت بها ، بعد أن كانت بالأمس القوة التي لا تقهر فأخذت تحاول أن تتلمس مواطن ضعفها وتحاول اللحاق بالركب الذي فاتها ولكن في وقت أخذ فيه الضعف يدب في كيانها وكثر من حولها الطامعون في ممتلكاتها وأصبحت رجل أوروبا المريض على حسب ما اصطلح على تسميتها المؤرخون .
عملت الدولة العثمانية على إعادة سلطتها المباشرة على ولاية طرابلس الغرب سنة 1835م ، بعد أن انهار حكم الأسرة القرمانليه فيها ، وبداية موجة الا ستعمار الأوروبي واجتياحه للولايات العثمانية.
لقد تزامنت تلك العودة وظهور نمط جديد من الإدارة وأسلوب الحكم ، في الدولة العثمانية على اثر صدور مرسومي كلخانة 1839م ، وهمايون 1856م ، وبداية عهد جديد اصطلح المؤرخون على تسميته " عهد التنظيمات " تميز عن العهود السابقة بالتنظيم القانوني الذي طال مختلف جوانب الحياة ، فشمل الحاكم والمحكوم والغني والفقير ، وهذا ما كانت تفتقده الإدارة العثمانية و الذي يمكن تسميته بمرحلة التحديث.
خضعت ولاية طرابلس الغرب للنظم والقوانين وكافة الإجراءات وتأثرت بالمستجدات التي طرأت على الدولة العثمانية سلباً وإيجاباً باعتبارها إحدى ولاياتها ، فعلى اثر صدور قانون الولايات سنة 1864م أعيد تشكيل الجهاز الإداري بالولاية ، وحددت مهام الوحدات الإدارية على وفق قوانين تحكمها من حيث البناء والاختصاص في تسلسل هرمي يأتي على قمته الوالي وفي قاعدته عامة الناس ، وقد كان لهذا القانون اثر في تنظيم الوحدات الإدارية في ولاية طرابلس .
فقد استحدثت العديد من الوحدات الإدارية والأجهزة التي لم يكن لها وجود قبل مرحلة الإصلاحات ، فتم إقامة المحاكم الحديثة ، مثل المحكمة الابتدائية ، والمحكمة التجارية ، ومحكمة الاستئناف ، ومحكمة الجزاء ، وحددت مهام هذه المحاكم على اثر صدور مجلة الأحكام العدلية ، أما نظام عملها فكان على وفق قانون الجزاء الهمايوني الصادر في 1857م .
كما تم العمل بنظام البلديات في ولاية طرابلس الغرب الذي طور العمل بنظام شيخ البلد الذي كان معمولاً به قبل هذه الفترة ، وذلك بزيادة في المهام والصلاحيات وباختلاف في التركيبة الإدارية ، وطريقة العمل وذلك على اثر صدور قانون البلديات سنة 1870م .
ومن الخدمات الأخرى التي أخذت الدولة على عاتقها القيام بها خدمات التعليم ، حيث كان قبل هذه الفترة مقتصراً على التعليم الديني ممثلاً في مؤسساته الثلاثة ، المساجد ، والزوايا ، والكتاتيب ، وعلى اثر الإصلاحات الجديدة التي شملت الدولة ، بدأ التعليم الحديث يدخل إلى الولاية تدريجياً ، فأقيمت المدارس الابتدائية ، والإعدادية ، ومدارس الحرف ، وغيرها من المؤسسات الحديثة التي لم تكن معروفة قبل هذه المرحلة . وقد كان لهذا التعليم اثر كبير في زيادة إقبال الأهالي على التعليم وانعكس بدوره على تولي الوظائف ونشاط الحركة الأدبية والصحفية بالولاية .
والى جانب خدمات التعليم وجدت الخدمات الصحية التي حاولت الدولة تقديمها لمواطنيها ، عن طريق إقامة المحاجر الصحية والمستشفيات ، لتقديم الخدمات العلاجية ، ومكافحة الأمراض المعدية ، وبالرغم من محدودية هذه الخدمات إلا أنها تعتبر بداية دخول الطب الحديث للولاية .
لم يكن اهتمام الدولة العثمانية مقتصراً على تنظيم الجهاز الإداري وأجهزة الخدمات العامة فحسب بل عملت على تطوير وتنمية مجالات أخرى كالزراعة مثلاً . فشجعت الفلاحين على زراعة المحاصيل عن طريق إعفاء بعض المحصولات الزراعية من الضرائب لعدة سنوات مثل محصول البطاطا ، كما شجعت زراعة الأشجار وعلى الأخص أشجار الزيتون والنخيل ، وأصدرت التعليمات بهذا الخصوص ، وكان لهذا التشجيع اثر ايجابي في زيادة مساحات الأراضي المزروعة وخاصة مساحات الأشجار المثمرة .
ولضمان تطبيق الإجراءات المتخذة في مختلف المجالات بالإضافة إلى القوانين التي تحكم كل إصلاح ، تطلب قيام جهاز امني مهمته تطبيق الأحكام ، والمحافظة على الأمن والاستقرار ، فعملت الدولة على استتبابه في مختلف أرجاء الولاية ، وعلى الأخص في المناطق الصحراوية حيث تتعرض القوافل التجارية لأعمال السلب والنهب ، وذلك بإقامة فرق من قوات الأمن " الهجانة " لحراسة الطرق والقوافل التجارية وغيرها .
لقد تطلب تطبيق النظم العثمانية في ولاية طرابلس الكثير من الأموال التي كان من الصعب الحصول عليها ، من خزينة الدولة العثمانية ، لذا كان النظام المالي في ولاية عامل هدم للجهود الإصلاحية الأخرى .
فقد اعتمدت الدولة قيام الإصلاحات بالولاية على ما تحصله من أموال من الأهالي ، عن طريق الضرائب التي كانت لها أثار سلبية على الولاية والتي شملت الإنسان والزرع والحيوان وكافة الأنشطة الاقتصادية الأخرى ، وذلك بنسب عالية ، لا تتفق ومردودات هذه الأنشطة ، الأمر الذي أدى إلى تدهور هذه الأنشطة والتلاعب ، والرشوة ، وفساد ذمة المأمورين ، إضافة إلى تحميل الأهالي أعباء مالية باهضة من خلال تكليفهم بإنشاء بعض المرافق م