Résumé:
تعالج هذه الورقة موضوعا حساسا وخطيرا، وهو من مواضيع تأصيل التّاريخ والثقافة والحضارة إنّه موضوع التّطور التاريخي للبناء العلمي والمعرفي، الذي ما كان ليذكر لو لا ظهور الكتابة وتطور مراحلها من جيل لآخر، ومن حقبة تاريخية وحضارة لأخرى، فالكتابة في معناها الحقيقي هي نظام مرئي رمزي للكلمة المنظومة، وبذلك كان للكتابة مخاضا عسيرا وطويلا، ليس بالسهولة التي نتصورها، ممّا نتج عنه تعدّد حضاري وثقافي متنوّع وثريّ، خاصة وأن الكتابة العربية تحوّلت إلى ظاهرة حضارية جذابة، فصارت بذلك الكتابة صنعة وفن وإبداع للعلم والمعرفة، وهكذا صارت الكتابة إرث تاريخي وحضاري متحقّق في فضاء القيم الإنسانية، أين تحولت المعرفة من الرواية الشفوية إلى الثقافة المكتوبة، ومن الكتابة الرقمية إلى الثقافة الرقمية في الألفية الثالثة، لأن للكتابة خاصية ثقافية وحضارية، فالكتابة العربية إذن صفحة مشرقة من التاريخ العربيين الأصالة والمعاصرة. وفي الحقيقة ليس من المنطق في شيء ربط البعض بين تطور الكتاب وصناعة الورق والطباعة وبين انتشار القراءة وعمومها بين مختلف الشعوب من جهة وبين تطور المجتمعات، في امتلاك الحرية، وبمعنى آخر فإن شيوع القراءة والكتابة اقترن بحصول الشعوب على حريتها كاملة غير منقوصة، والعرب المسلمون استمدّوا حريتهم من عقيدتهم ودينهم الإسلامي الذي حررهم من كل صنوف العبودية. لذلك تفتقت عقيرة الإنسان العربي المسلم، وطهر الفكر العربي أكثر خصوبة، إنتاجا وإبداعا حتى قبل ظهور المطبعة الحديثة، فظهرت طبقة كبيرة من الكتاب وبيوتات مشهورة من النساخ الإناث والذكور تخصصت في صنع المخطوط وإنتاجه كتابة ونسخا ونشرا، ممّا يدلل على توفر حرية الرأي والتعبير عبر الكتابة والنقد، فراج الكتاب المخطوط بين العرب والمسلمين مؤثرا ومتأثّرا بالثقافات والحضارات الأخرى، وبذلك خلف العرب ملايين المخطوطات في مختلف المجالات العلمية والأدبية ، والتي للأسف ضاع وتلف معظمها، وهي اليوم موجودة في أغلبها خارج الديار العربية الإسلامية، وتدل كل هذه التصانيف على ميل الإنسان العربي الرسالي الحضاري إلى الكتابة كأسلوب علمي لحل أزماته المعيشة، بل وتطرق إلى مواضيع لحل مشاكل طارئة قد تحدث في المستقبل القريب والبعيد، وهذا يدل على أهمية البعد الاستشرافي للثقافة الإسلامية على مستقبل الكتابة عند العقل العربي المبدع. وإذا كان بعض الكتاب والسياسيين يطلقون على عرب اليوم بأنّهم "ظاهرة صوتية" مهمتها الثرثرة الزائدة عن حدها، فإن عرب الأمس القريب أقلّ ما يقال عنهم أنّهم "ظاهرة كتابية"، هلا اتّعظنا من التاريخ ودروسه البليغة؟.