الخلاصة:
شرّف الله العربية بالقرآن الكريم، وهيّأ له علماء فسّروه ودرسوا علومه، وأقاموا لهذه اللغة قواعدَ وأسسا تحفظها، فتركوا من خلفهم تراثا غنيا يُعنى بكافة مستويات الظاهرة اللغوية من صوت، وصرف ومعجم ونحو وبلاغة، إذ ارتبطت العربية بالنص القرآني ارتباطا وثيقا، فكانت وعاءا له، ودرسها هو السبيل الوحيدة لفهمه واستنباط أحكامه، ومن ثمة كانت نشأة الدرس اللغوي عند العرب موصولة الأسباب بالدرس الديني، وكانت اللغة أداة بحث رئيسة امتلكتها فرق عدة من علماء المسلمين من المفسرين والفقهاء، والمتكلمين والأصوليين، وتلقف أصحاب هذه الفرق النصَ القرآني بالدّرس والعناية، وعدّتُهم في ذلك اللغة، وبذلك اتجه الدرس اللغوي اتجاهات مختلفة ونما بحث العربية في الإطار الإسلامي. وجدير بالباحثين والمتخصصين الكشفَ عن هذا التراث وبيانَ أصالته، بهدف تخريج فكر يتوافق مع الحياة الحاضرة، ورؤية البحث لم تنطلق من قواعد حديثة ليُبحث لها عن صدى في التراث اللغوي، وإنما ليبعث التراث اللغوي الذي أبدعه العلماء في ظلال النص القرآني،فكان الغرض الرئيس منه هو محاولة استيفاء بعض جهود علماءنا في ظل النص القرآني، وفهْم ما ذهبوا إليه من نظريات وآراء، ولما كانت جهود فخر الدين الرازي في هذا الإطار والمنفتحة على عدة مجالات علمية جديرةً بالبحث والدراسة، وقع الاختيار على تفسيره المعروف بـ"التفسير الكبير" أو "مفاتيح الغيب"، وتبلور عنوان البحث موسوما بـ "المستويات اللغوية وأثرها في توجيه المعاني من خلال تفسير الرازي". وإن اختيار البحث في هذا الموضوع قائم على أسباب ذاتية وموضوعية ، فأمّا الذاتية فتجلت أساسا في حبّ اللغة العربية وخدمتها، وحبّ الاشتغال في المجال اللغوي المرتبط أساسا بالقرآن الكريم. وأما السبب العلمي الرئيس فتمثل في خدمة التراث العربي، من خلال بيان أصالته باختلاف مشاربه، وإبراز مختلف الجهود المقدمة ، إذ ينطلق البحث من الإيمان بالتراث اللغوي العربي الرائد، الذي لا يخفى على المتخصص قدْرَ ما أسهم به في تاريخ الدرس اللغوي ومسيرته الطويلة، كما لا تغيب عنه قيمة ما قدمه هذا التراث؛ وهو ينطلق أيضا من الحاجة إلى عرض ما في تراثنا اللغوي من أفكار ومفاهيم لغوية متميزة والوقوف عليها، الأمر الذي يجعل هذا التراث ذا إسهام متجدد في الإطار الفكري الواسع، وليس الهدف مقارنته أو مقاربته مع الدرس اللغوي الحديث، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، ونظرا للأهمية الكبيرة التي يكتسيها عمل الرازي في تفسيره الكبير، فقد اتجه إليه البحث بالتحديد. ويعالج البحث في بابيه إشكالية تجمع جملة من التساؤلات منها: كيف نظر علماء العربية لمستويات الدرس اللغوي؟ وكيف نظر فخر الدين الرازي إلى اللغة من خلال تفسيره؟ وهل الم بجميع مستويات الدرس اللغوي؟ وما هي التطبيقات التي وظفها لخدمة المعنى وتحقيق الهدف من التفسير؟ لقد فرض عنوان البحث من حيث التدرج وفق المستويات اللغوية، هذا التقسيم الذي ينبني على بابين ومقدمة وخاتمة، مشفوعة بملحقين وثبت لمصادر البحث ومراجعه. فالباب الأول الموسوم بـ" المستويات اللغوية"، تم فيه استعراض الإطار النظري العام للأدوات العلمية - المنهجية للدرس اللغوي، ولجهود علماء اللغة من مفاهيم ومصطلحات ورؤى لغوية. وأما الجانب التطبيقي فقد انفرد به الباب الثاني، وفيه تم رصد تجليات المستويات اللغوية من خلال "التفسير الكبير"، ومدى توجيهها للمعاني والدلالات المختلفة. وأما تفصيل معالم البحث فهي كالآتي : ضم الباب الأول والموسوم بـ" المستويات اللغوية" ثلاثة فصول، تتفرّع بدورها إلى ثلاثة مباحث تفصيلها كالآتي: الفصل الأول" المستوى الصوتي" وفيه تم تتبع أهم الجهود الصوتية العربية واستجلاء مظاهرها، من خلال عرض المفاهيم والمصطلحات، مع بيان مواطن التميز والأصالة في هذا المستوى. والفصل الثاني "المستوى الإفرادي"، تناول الكلمة المفردة من جانبين جانب الشكل الذي يتعلق بالبنية الصرفية، ويختص به المستوى الصرفي، وجانب المضمون الذي يتعلق بالبنية الدلالية، ويختص به المستوى المعجمي.مع التطرق الى بعض التقاطعات الصرفية المعجمية وأما الفصل الثالث الموسوم بـ "المستوى التركيبي"، فيتناول دراسة نظام الجملة ودور كل جزء في هذا البناء، وعلاقة أجزاءها بعضها ببعض، وأثر كل جزء في الآخر، مع العناية بالعلامة الإعرابية، وبذلك ينطلق المستوى التركيبي من التلازم بين النحو الذي هو الهيكل الأساسي والمعيار الداخلي الذي يتعلق بالأبنية التركيبية المؤلفة من الأبنية الإفرادية، ويختص به المستوى النحوي، وبين البلاغة ممثلة في أغراض المتكلم حسب الحال والمقام، ويختص به المستوى البلاغي، فالمستوى التركيبي لا يقتصر على دراسة الجمل وأنماطها، وعلى العلاقات الشكلية فقط، وإنما يتجاوزها إلى الدلالات والمعاني التي تؤديها تلك الجمل والتراكيب، دون فرض حدود فاصلة بين مستويات المادة اللغوية. وأما الباب الثاني المتعلق بـ"تجليات المستويات اللغوية في تف